يعتمد الأسلوب القرآني في تبليغ أغراضه ورسالته -من جملة ما يعتمد- وظيفة التصوير والتمثيل، بحيث ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير، وأوضح ما يتجلى هذا الأسلوب في المثل الذي ضربه سبحانه لبيان الفارق بين المؤمن والكافر.
فبعد ذكره سبحانه لبعض صفات الكافرين الذي يصدون عن سبيل الله، ويطلبون السبل المعوجة، ولا يقيمون وزناً لما بعد هذه الحياة، وذكره أيضاً لبعض صفات المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والذين هداهم الله إلى الحق المبين، فاطمأنت قلوبهم إلى رحمة الله ورضوانه، قال سبحانه: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون} [هود:24].
فقد جاءت هذه الآية الكريمة توضيحاً وتبياناً وتذكيراً للفارق بين المؤمنين والكافرين، بين المؤمنين الذين فتحوا بصائرهم وأبصارهم للحق المبين، وبين الذين أعموا أبصارهم، فضلوا عن سواء السبيل، وذلك من خلال التمييز بين حال الإنسان الأعمى والأصم، وحال الإنسان البصير والسميع، وهو مثل واقع مشاهد في الحياة الإنسانية.
فالأعمى والأصم هو مثال الكافر الذي تعطلت لديه منافذ المعرفة، فعميت بصيرته عن الإيمان، فلم يعرف لهذا الكون خالقاً، وسدت أذنه عن سماع الحق، فلم يعترف بحياة غير الحياة التي هو فيها، والبصير والسميع هو مثال المؤمن، الذي إستفاد من وسائل المعرفة التي زوده الله بها، فإهتدت بصيرته بنور الإيمان، وإمتلأت نفسه من سماع الحق، فكلاهما لا يستويان في الصفات والمزايا والتوجهات والأهداف، مثلما لا يستوي الأعمى والأصم، والبصير والسميع في الخلقة والتكوين، والحركة والنشاط.
يقول ابن القيم بخصوص هذا المثل القرآني: ذكر سبحانه الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع، وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم، من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق، أصم عن سماعه، فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية أحق الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن، فتضمنت الآية تمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هل يستويان مثلا}.
وتوقف سيد قطب رحمه الله -على عادته- عند هذا المثل، ووصفه بأنه صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين، الفريق الأول كالأعمى لا يرى، وكالأصم لا يسمع، والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل، ليدرك ويتدبر، فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس، والفريق الثاني كالبصير يرى، وكالسميع يسمع، فيهديه بصره وسمعه، {هل يستويان مثلاً}؟ سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة، لأنها إجابة مقررة.
ويذكر الشيخ الشعراوي في خواطره -كما يحب أن يسمي تفسيره للقرآن- أنه سبحانه يضرب في هذه الآية مثلاً بسيدي الحواس الإدراكية: السمع والبصر، فهما المصدران الأساسيان عند الإنسان لتلقي المعلومات، المسموعة والمرئية، ثم تتكون لدى الإنسان قدرة الإستنباط والتوليد مما سمعه بالأذن، ورآه بالعين...ولن يشك كل من الأعمى أو الأصم أن من يرى، أو من يسمع هو خير منه، ولا يمكن أن يستوي الأعمى بالبصير، أو الأصم بمن يسمع.
وقد أشار الشيخ ابن عاشور إلى نكتة لطيفة في هذا المثل القرآني، حاصلها: أن عطف صفة الأصم على صفة الأعمى ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين، كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تلك الصفتين على حدة، فهم يشبهون الأعمى في عدم الإهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر، ويشبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهمها السمع، أما العطف في صفتي البصير والسميع، فلأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي البصير والسميع،إذ الإهتداء يحصل بمجموع هاتين الصفتين، فلو ثبتت إحدى الصفتين، وإنتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء، ثم يقرر أن الداعي إلى عطف السميع على البصير في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة، لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام، والمزاوجة من محسنات الكلام، ومرجعها إلى فصاحته.
ولا يخفى أن الغرض الأساس من ضرب هذا المثل التحذير من مواقعة الكفر، والدخول فيه، ودعوة من وقع فيه، ودخل إلى مستنقعه إلى الخروج منه، وعدم التمادي فيه، وقد جاء سبحانه في هذه الآية بالأشياء المتناقضة، ليَحْكُمَ الإنسان السامع أو القارئ لهذه الآية، وليَفْصِل بحكم يذكره بالفارق بين الذي يرى، ومن هو أعمى، وكذلك بين من يسمع، ومن هو أصم، ومن الطبيعي أن لا يستويان.
ويلاحَظ أن القرآن الكريم في مواطن عديدة مثَّل المؤمنين المهتدين بمن هو بصير سميع، ومثَّل الكافرين بالعمى والصم، نحو قوله تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} [الأنعام:50]، وقوله سبحانه: {وما يستوي الأعمى والبصير} [فاطر:19]، وذلك لتنبيه الناس وتحذيرهم من مغبة الكفر الذي يجعل صاحبه كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله، وكالأصم الذي لا يدري ما يجري من حوله.
وقد ختم سبحانه هذا المثل الحسي، بدعوة إلى التذكر، فقال سبحانه: {أفلا تذكرون}، وذلك تنبيهاً على أنه يمكن علاج هذا العمى، وهذا الصمم، وإذا كان العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى، وهذا الصمم، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
على أن هذا المثل الوارد في هذه الآية، ينبغي أن يُستحضر معه قوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]، وذلك أن الإنسان قد يكون بصيراً، أو له أذن تسمع، لكنه لا يستخدم حاسة الإبصار، أو حاسة السمع فيما خلقتا من أجله في التقاط مجاهيل الأشياء، فالعبرة في المحصلة ليست في إمتلاك هاتين الحاستين المهمتين، بل في الإستفادة منهما، وإعمالهما فيما خلقتا من أجله، وقد ذم سبحانه من زوده بحواس المعرفة، ثم لم يستعملها إستعمالاً صحيحاً، حيث قال: {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
المصدر: موقع إسلام ويب.